دراسات قرآنية
مناهج التفسير والمفسرين
فضيلة الشيخ حيدر حب الله
مقدّمة:
لا يمكن لقارئ شخصيّة كبيرة كـ العلاّمة الشيخ محمد جواد مغنيّة (ت 1979م)، وراصدٍ لدورها الإحيائي والتنويري إلاّ أن يصنّفها في عداد الرَادَةِ الهاميّن لحركة الإصلاح الديني
في العالم الإسلامي في النصف الثاني من القرن العشرين...
في العالم الإسلامي في النصف الثاني من القرن العشرين...
لقد طرق الشيخ محمد جواد مغنية في مؤلفاته التي تقارب الستين، مختلف إشكاليات النهضة والإحياء والإصلاح... وعالج العديد منها ـ وفق رؤيته ـ تحت مظلّة عقلانية جادّة، وكان القرآن من أهم مشاغله في القسم الأخير من حياته، حيث قدّم إسهامين جديدين أحدهما: تفسير (الكاشف) في مجلدات سبعة، وثانيهما (التفسير المبين) في مجلد واحد مرفق بالنّص القرآني، هدف منه التبسيط والوصول إلى أكبر قدر من القرّاء.
وسوف نحاول هنا تلمّس تجربته القرآنية، من خلال تجربة التفسير الهامـة له، أي (الكاشف)، بغيةَ تحديد رؤيته ومنهجه في هذا المضمار.
عناصر المنهج التفسيري عند الشيخ مغنية
ومن هنا، نجد أنفسنا مضطرّين ـ منهجياً ـ لاكتشاف عناصر عامة في المنهج والأدوات التي سار عليها مفسّرنا العلامة الشيخ محمد جواد مغنية كـ مقدّمة ـ كما أشرنا ـ تأسيسية لاكتشاف عناصر المنهج التفسيري.
وبصورة موجزة يمكن هنا الإشارة إلى النقاط التالية:
1ـ جدليّة الخطاب والواقع
وإذا كان الصدر قد وضع صياغةً نظرية لإقحام الواقع في التجربة التفسيرية، مؤسّساً لجدلية الخطاب والواقع، فإن الشيخ مغنية مارس ـ بشكل من الأشكال ـ تجربة المزاوجة بين النص والواقع في جهده التفسيري، كما سيتجلّى لدى الحديث عن المنحى العملاني في تفسيره.
لكن إقحام الواقع في تجربة التفسير أمرٌ تشوبه من الجهة الأخرى مخاطر، ذلك أن ضغط الواقع قد يفضي بالمفسّر لتطويع النص والتلاعب به كما حصل كثيراً، ومن هنا كان الواقع في علاقته مع النص مساهماً لتثويره ومعيناً لاستنطاقه، أكثر من سلطة تلعب به وتؤوِّل مفاداته.
2ـ إعادة إنتاج خطاب شفّاف
امتاز الشيخ محمد جواد مغنية بخطاب بالغ الشفافية والوضوح، مرتكزاً على عنصر التيسير والتسهيل واللغة المبسّطة، وقد غطّت مجمل أعماله ونتاجاته لغةٌ واضحة شفافة سهلة يسيرة على القارئ، ولم تختلف في ذلك نتاجاته الثقافية العامة ككتاب (الشيعة والحاكمون) و(الخميني والدولة الإسلامية) و(قيم أخلاقية من فقه الإمام الصادق) و... عن نتاجاته التخصّصية كـ كتابه (علم أصول الفقه في ثوبه الجديد) و(فقه الإمام جعفر الصادق) و(معالم الفلسفة الإسلامية) و(تفسير الكاشف) و....
وقد افتخر الشيخ مغنية بأسلوبه الجذّاب هذا ، وقد ساهم هذا الأسلوب في انتشار كتبه ودراساته وعلى نطاق واسع في مختلف الأوساط الشبابية في العالم العربي حيث كانت تصل.
وعلى سبيل المثال تجربة تفسير (الكاشف)، ففي بعض الحالات جرى تبسيط بعض الأفكار إلى حدّ مبالغ فيه، وتمّ استبعاد بعض الموضوعات الهامة كـ اللغة والنحو والصرف والبلاغة تحت ستار أنها تعيق تكوين خطاب عصري، وإذا ما أريد القول بأن تفسير الكاشف يهدف إلى بلورة تفسير هادف دينياً بالنسبة للشباب فكل تلك التصوّرات صحيحة، أما إذا أريد تقديم تفسير الكاشف ـ كتفسير سيد قطب ـ على أنهما الخطوة المكتملة للجهد تفسيري إلى زمانهما فثمة ما يحدونا للتوقف.
ويبدو أن الشيخ مغنية كان في الغالب يهدف مخاطبة الشباب والجيل الصاعد، لا مخاطبة المفكرين والباحثين إلا قليلاً، ولهذا ضعفت اللغة التخصصية في كلامه، وصارت لغته ـ كما يقول بعض دارسيه ـ بعيدة عن مخاطبة طبقة النخبة من العلماء والمفكرين إلى حد معيّن.
والنقطة الهامة في هذه اللغة الشفافة (بهذا المعنى)، هو أنها تهدم التباعد ما بين الأفكار المنتجة وما بين إنتاجها عند الباحث نفسه، فالشيء المعتاد عند كثير من الأوساط الدينية وغيرها هو تقديم النظريات والأفكار بصورة ناجزه، لا يفهم القارئ مسلسل المعاناة اليومي الذي مرّ فيه الباحث أو المفكّر، ولا يستطيع تحديد السبب الذي دفعه إلى التفكير بهذا الموضوع أو الميل إليه، وعندما تستخدم لغة مغنية تتقلّص هذه المسافة الطويلة ما بين النص وصاحبه، ويغدو القارئ أكثر استشرافاً للمعطيات من الزاوية المحيطة، ومن البعد التاريخي أيضاً، وحتى من زاوية النهج العام للأفكار أحياناً كثيرة.
وهذا ما نجده عند مغنية بارزاً في كتابه (الكاشف)، إذ يسير مغنية بقارئه رويداً رويداً، ويشرح له كيف تنامت عنده فكرةٌ ما أو تفاعلت الأفكار مع بعضها، ويصارح قارئه بأفكار اختلجته أو مواقف وأحداث أحاطت به...
3 ـ جرأة اللغة / صراحة النقد
أسهم العلامة مغنية إسهاماً ملحوظاً في نقد الفكر الديني السائد وفقاً لعصره ومحيطه...
يمكن ـ وبكل ثقة ـ تصنيف الشيخ مغنية أحد الناقدين الدينيين في القرن العشرين،
وفي تجربته التفسيرية (الكاشف) مارس نقداً صريحاً للأوضاع القائمة في العالم الإسلامي، فكرياً، واجتماعياً، وسياسياً...
ومن هنا يمكن القول بتغلّب الطابع النقدي على نتاجات مغنية، بما فيها تفسيره الكاشف، أكثر من الطابع التأسيسي، رغم اشتمال أفكاره على الكثير من الإسهامات الفكرية والبنيوية الهامّة.
4 ـ المنحى العملاني عند الشيخ مغنية
أـ لم تحظ المباحث اللغوية من النحو والصرف وامثالهما بإقحام متميز في تفسير الكاشف، رغم أن العلامة مغنية عقد قسماً خصّصه للغة والإعراب لدى كل مقطع تفسيري للآيات، فقد اعتمد الشيخ مغنية لدى تفسيره للآيات على استحضار مجموعة آيات على طريقة تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي وفي ظلال القرآن لسيد قطب، ومن ثم كان يعقد عادةً ثلاثة فصول هي: اللغة، الإعراب، المعنى، وكان يسجل عناوين فرعية أحياناً كثيرة يستقل فيها بمعالجة موضوع معين فكري أو ثقافي أو اجتماعي أو سياسي أو.. شبه البحوث المستقلة التي كان يعقدها صاحب الميزان.
ب ـ خلافاً لأمثال الفخر الرازي، لم يُغرق مغنية تفسيره بالبحوث الكلامية أو الفلسفية أو المنطقية، مقتصراً منها على ما كان محل الحاجة وعلى تماس مع هموم الثقافة لدى عنصر الشباب.
ومن هنا لا نجد في الكاشف بحوثاً فلسفية أو منطقية أو أصولية أو كلامية أو حديثية أو فقهية أو رجالية بالمعنى الواسع للكلمة، وإنما نجد استخدامات وتوظيفات لأفكار تنتمي إلى هذه العلوم يهدف من وراء استحضارها خدمة فكرة عامة وعملانية.
5 ـ جدة الإنتاج والإبداع التفسيري
يعتقد العلاّمة مغنية أنّ (أي مفسر لا يأتي بجديد لم يسبق إليه، ولو بفكرةٍ واحدة في التفسير كلّه، أيقنت أن هذا المفسّر لا يملك عقلاً واعياً، وإنما يملك عقلاً قارئاً، يرتسم فيه ما يقرأه لغيره...).
إن هذه الرؤية الإبداعية التي يستشرفها الشيخ مغنية، تعزّز التيار المعارض للمنحى الاستاتيكي في المؤسسات الدينية، والذي يعمل على الإبقاء على الأمور كما هي دونما تغيير.
وترتكز هذه الرؤية التي يصرّح بها مغنية على إحساس بالحاجة من جهة، وعدم كفاية النتاجات الفكرية السالفة من جهةٍ أخرى، وهذه الثنائية ـ ثنائية الحاجات والنتاجات ـ هي الأساس الذي تقوم عليه عملية الإبداع في بعدها التسويغي.
6 ـ المفسّر والقرآن، جدل المعرفة والإيمان
وفي سياق المحدّدات المنهجية التي يختارها مغنية في تفسيره تنظيراً وممارسة، تقع مقولته التالية: (وهنا شيء آخر يحتاج إليه المفسّر، وهو أهم وأعظم من كل ما ذكره المفسرون في مقدّمة تفاسيرهم، لأنه الأساس والركيزة الأولى لتفهم كلامه جلّ وعلا، ولم أرَ من أشار إليه، وقد اكتشفته بعد أن مضيت قليلاً في التفسير، وهو أن معاني القرآن لا يدركها، ولن يدركها على حقيقتها، ويعرف عظمتها إلا من يحسّها من أعماقه، وينسجم معها بقلبه وعقله، ويختلط إيمانه بها بدمه ولحمه...).
إن الدعوة التي يطلقها مغنية لعلاقة إيمانية مع القرآن تسبق علاقة التفسير والمعرفة دعوة صحيحة، لكنها لا تستبعد دعوةً عكسية لقراءة النص القرآني دونما إيمان، ولعل مزيج القراءتين قد يقدم لتجربة التفسير الإسلامي الكثير من النتائج والمعطيات.
7 ـ النصّ القرآني المؤسّس والنص الثاني، إشكاليات الفهم
أـ أما موقفه إزاء نصوص النبي وأهل بيته فقد أيّد أخذها مرجعاً تفسيرياً، وظهرت في كتابه (الكاشف) موارد عديدة تمسّك أو استشهد فيها بروايات عنهم لصالح تفسير معين للآية، كما ذكر في مقدّمة تفسيره: (اعتمدت ـ قبل كل شيء ـ في تفسير الآية وبيان المراد منها على حديث ثبت في سنّة الرسول (ص)، لأنها ترجمان القرآن، والسبيل إلى معرفة معانيه.. فإذا لم يكن حديث من السنّة اعتمدت ظاهر الآية، وسياقها، لأن المتكلم الحكيم يعتمد في بيان مراده على ما يفهمه المخاطب من دلالة الظاهر.. وإذا وردت آية ثانية في معنى الأولى، وكانت أبين وأوضح ذكرتهما معاً، لغاية التوضيح، لأن مصدر القرآن واحد...).
حصيلة الملاحظة أن الشيخ مغنية - وِفق ما نفهمه من النص المتقدّم - لم يفرّق بين النص النبوي وبين الخبر المنقول عن النبي (ص)، فالنص النبوي ترجمان القرآن، والسبيل إلى معرفته، تمسكاً بما دل على لزوم الأخذ بما أتى به الرسول (ص)، لكن الخبر المروي عن النبي (ص) ليس له تلك الدرجة المعرفية، وإن لم نمارس إزاءه رفضاً شاملاً.
ب ـ وأما موقفه من الإسرائيليات فكان واضحاً جلياً: (نظرت إلى الاسرائيليات التي جاءت في بعض التفاسير على أنها خرافة وأساطير...).
ج ـ أما موقف الشيخ مغنية إزاء أسباب النـزول، فهو يصرح بأنني (تجاهلت ما جاء من الروايات في أسباب التنـزيل إلا قليلاً منها، لأن العلماء لم يمحصوا أسانيدها ويميزوا بين صحيحها وضعيفها...).
وهذا الموقف يشابه موقف العلامة الطباطبائي صاحب الميزان.
د ـ أما عن موقفه من أقوال العلماء والمفسرين، فقد كان محترماً لها، وآخذاً بها إلى درجة المؤيد لوجه من الوجوه واحتمال من الاحتمالات، أما تقديس كلمات المفسرين رغم قيمتها، وإعطائها مكانة لا مجال معها للنقد أو التمحيص فهو ما رفضه (الكاشف) منهجاً وممارسةً.
8 ـ التفسير بين النسبية والدوغمة
هناك نصّان هامّان للشيخ محمد جواد مغنية، يعكسان تصوراته عن العملية التفسيرية، وعموماً الجهود العلمية، يقول في أحدهما: (والذي يهوّن الخطب أن المفسّر يعبّر عن فهمه وتصوّره لمعاني القرآن ومقاصده، كما هي في ذهنه، لا كما هي في واقعها، تماماً كالفقيه المجتهد الذي يُؤجر إن أصاب، ويُعذر إن أخطأ، بل ويؤجر أيضاً على نيته واجتهاده وعدم تقصيره).
ولدى حديثه في ثانيهما عن الدين والفطرة يقول: (القصد من الآية هو تحديد المقياس الذي قيس به دين الله، وأنه بما فيه من عقيدة وشريعة وأخلاق ينسجم مع فطرة الناس ومصالحهم، وأنه سبحانه لم يشرّع حكماً لعباده منافياً لمصلحة الفرد أو الجماعة.. هذا هو الضابط والفاصل بين أحكام الله وأحكام غيره، بين شريعة الحق وشريعة الباطل، أما أقوال العلماء من الفقهاء والمفسّرين والفلاسفة فما هي بأصل من أصول الإسلام، ولا يصح الاعتماد عليها كدليل شرعي، لأنها تعكس اجتهاداتهم وفهمهم لدين الله وأحكامه، ولا تعكس الدين كما هو في حقيقته وواقعه).