الأربعاء، 15 فبراير 2012

مكة قبل البعثة

دراسات قرآنية



مكة قبل البعثة
 إذا ذُكرت مكة تعود الذاكرة إلى إبراهيم وإسماعيل(عليهما السلام) ورفعهما القواعد من البيت ونداء إبراهيم في الناس بالحج، ودعاء إبراهيم لأهل هذا البيت(1)،
وفي هذه الإشارة والعلاقة بين إسماعيل وذريته والبيت الحرام دلالة على التقابل مع إسحاق وتوالي الأنبياء من ذريته، فكانت ذرية إبراهيم قد شرفت بالتاريخ الرسالي والجغرافية المقدسة والمحرمة، فلئن اختص نسل إسحاق بالأنبياء فإن نسل إسماعيل ارتبط بالمكان الذي أصبح مركزاً ومآلاً للرسالات التي ختمت به لتنطلق إلى العالم بصيغة نهائية تناسب الكونية التي غدت تحتلها مكة وبيتها الحرام، أول بيت وضع للناس(2)، الذي سيصبح مركز التاريخ الإنساني(3)، هذه المركزية والعمق التاريخي لمكة الذي يشير إليه القرآن يدعو لمعرفة أحوالها وذلك لفهم الأساس الذي قام عليه الإسلام(4).
 يطلق القرآن على مكة اسم (أم القرى)(5) مما يحمل دلالة على محوريتها بين القرى الأخرى التي ترجع إليها وتقلدها كعاصمة توجه المنطقة(6)، فموقفها من أي قضية يؤثر بموقف المناطق الأخرى حتى إذا فتحت ودانت بالإسلام تبعها الناس(7)، ومما لا يحتاج إلى تأكيد أن وجود الكعبة ومناسك الحج فيها كان العامل الأكبر في مكانة مكة والمركز المعنوي الذي تتمتع به، إضافة إلى ما كانت تتمتع به من حركية تجارية بفضل موقعها على الطريق التجاري البري بين اليمن وبلاد الهلال الخصيب، وممارسة أهلها للتجارة مع مختلف بقاع العالم براً وبحراً، وكذلك المهن المرتبطة بالتجارة (8)، والقرآن يحفل بالآيات الدّالة على ذلك.
وسورة قريش(9) واضحة الدلالة على الرحلات التجارية البرية وما كان يعقد فيها من اتفاقيات وعلاقات، والسور المكيّة تحفل بما يدلّ على ثرواتهم الطائلة. كما أن عاداتهم في استقبال القوافل التجارية بقيت مستمرة لما بعد الإسلام(10). كل ذلك يدل على المكانة التجارية التي كانت تحتلها مكة قبل البعثة، ويستتبع هذه المكانة مستوى من الوعي الضروري الذي أهَّلهم للقيام بهذا الدور.
هذا والمكانة الدينية التي تحتلها مكة منذ القدم(11) هي العامل الأساسي في نجاحها التجاري، إذ شكل موسم الحج فيها سوقاً تجارياً سنوياً، والأهم من ذلك ما وفّره الحرم من أمن لمكة تلك المدينة التي لا تمتلك عوامل الأمن الطبيعية فجاء أمنها من قدسيتها واحترامها عند الناس وقد أشار القرآن إلى هذا الجانب في الأمن المكي: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِم)(12)، (وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِع الهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُم حَرَمًا آمِنًا)(13)، بل هناك آية قرآنية صريحة في العلاقة بين الكعبة وموسم الحج وبين التجارة التي فيها قوام الحياة (جَعَلَ اللهُ الْكَعبَةَ البَيتَ الحَرَامَ قِيَامًا للنَّاسِ وَالشَّهرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ)(15).
هذه الصورة العامة لواقع مدينة مكة تدلّ على كونها مدينةً تمتلك من مقومات النظام ما يؤهلها لقيادة ما حولها من الحواضر، بل وتنظيم العلاقات واللقاءات بين مختلف القبائل والوفود القادمة إليها، ولئن كان غامضاً طبيعة النظام الذي كان سائداً فإن هناك إشارات قرآنية عديدة إلى بعض الآليات التي كانت سائدة في إدارة مكة وقيادتها، من ذلك ظاهرة النوادي التي كان يجتمع فيها الناس ويتداولون الشأن العام وقد أشار القرآن إلى ذلك(16)، ونفس الأمر بالنسبة للقضاء فهناك آيات ومصطلحات – أبرزها مفردة الحكم ومشتقاتها- تدل على وجود نمط من السلطة القضائية تحل النزاعات بين الناس، وكانت تستند إلى التقليد والعرف، ويقوم بها الوجهاء، وتتم بالاختيار(17).
 هذا عن المعالم العامة لمكة قبل البعثة، أما الشرائح السكانية التي كانت تقطن في مكة فهناك آية تشير إلى وجود بعض الأجانب إلى جانب العرب(18)، لكن هناك آيات مكية كثيرة (19) تدل على وجود جالية لا بأس بها من أهل الكتاب يعيشون مع العرب في مكة وأكثرهم من النصارى وفيها بعض اليهود(20). هذه الجالية الأجنبية المقيمة بمكة بما تحمله من أفكار وعادات، إضافة إلى الوفود السنويّة من مختلف المناطق التي تفد إلى مكة في موسم الحج أو القوافل التجارية التي تمر عبر طريقها، كل ذلك سيكون له دوره في التلاقح الفكري الذي من الطبيعي أن يكون له أثره في أفكار وربما عقائد المكِّيين، وفضلاً عن هذا الجانب فإنّ لحضور هذه الجاليات دلالة على كون مكة فضاء مفتوحاً وكون المكيين على إحاطة بما يجري في العالم وعلى اتصال دائم بما حولهم، كل هذه المعطيات تؤكد المكانة الحضارية التي كانت تمتاز بها مكة مما أهّلها لاحتضان الرسالة الخاتمة التي ستنطلق إلى العالم المختزل في عالم مكة الأرخبيلي.

لكن المحور الأهم في حياة المكيين هو الأفكار والعقائد التي كانت سائدة قبل البعثة، ولئن كان القرآن المكي يشتمل على بيانها فإن السياق القرآني يعالج هذه الأفكار خارج إطار الزمان والمكان، وليس من الضروري أن تكون الأفكار المطروحة للنقد هي أفكار أهل مكة باعتبار أن الدعوة كانت تنطلق إلى جميع الناس حتى الوفود الذين يردون إلى مكة أو القاطنين خارجها، مما يقتضي اتباع السياق القرآني وتناول تلك الأفكار خارج السياق التاريخي والجغرافي، ويؤكد أهمية ذلك ما أشرنا إليه سابقاً من تداخل أفكار أهل البدو مع أهل الحضر دون تمييز.



الكاتب الأستاذ خليل الحلي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم). (البقرة/127)
(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ). (آل عمران /96)
 انظر: عبد العزيز كامل: القرآن والتاريخ، مجلة عالم الفكر، مجلد:12، عدد4 /1982 ص/21.
 انظر: صالح أحمد العلي ، م.س/129.
(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (الشورى/7)
والقرية: هي مجتمع القوم الذين يبعث إليهم الرسل, ويدخل تحت هذا اللفظ المدينة لأنها مجتمع الأقوام (انظر: الرازي، التفسير 14/150 ) .
 يرى ابن حيان أن من حولها يشمل جميع الأرض وليس ما يخص جزيرة العرب، انظر له: البحر المحيط4/179.
هذا ما تشير إليه سورة النصر:(إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ(1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا(2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا).
انظر: صالح أحمد العلي ، م.س/ 131- 138.
(لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ(1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ(2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ(3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ).
10ـ  أشار القرآن إلى ذلك في سورة الجمعة وموقفهم عندما تركوا الصلاة لقدوم التجارة: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).(الجمعه/11) وهذا يدل أيضاً على استمرارية التجارة بينهم بعد الهجرة لأن سورة الجمعة مدنية.
11ـ  يرجع تاريخ مكة إلى عهود قديمة، فقد ذكرها بطليموس باسم مكرابو أي المقدّسة مما يدلّ على قدم قدسيتها (انظر: صالح أحمد العلي ، م.س /138 ) كما أن هناك آيات كثيرة تدل على قدم حرمة مكة (انظر: محمد عزة دروزة ، م.س/314).
12ـ العنكبوت/76.
13ـ القصص/57.
14ـ المائدة/97.  
انظر: محمد عزة دروزة، م.س/79 .
15ـ  انظر:صالح العلي، م.س :150 أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(19) "
16ـ  انظر: صالح أحمد العلي، م.س:146 ومحمد عزة دروزة، م.س/357 ، ( كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَن بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَه). (العلق/15، 17)
17ـ انظر حول ما يدل على ذلك من القرآن: محمد عزة دروزة، م.س/372 وما بعدها.
18ـ (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ). (النحل/103).
19ـ انظر مثلاً : الأنعام/20-114، الأعراف/157، يونس/94، الرعد/36 -43، النحل/43، الإسراء/107-108، مريم/34-37، الحج/34، القصص/52- 55، العنكبوت/46-47، الزخرف/57-59،63-65. (وإن كانت هذه الآيات لم تشر صراحة إلى إقامتهم الدائمة بها).
20ـ  انظر حول معالم أهل الكتاب في مكة من خلال الآيات محمد عزة دروزة، م.س/164-165، 169-171.