دراسات قرآنية
لقد جَمَعت الصلاة من الفلسفات العبادية مالم تجمعها غيرها من العبادات، ويكفي إنها عمود الدين إن قبلت قُبل ما سواها وإن درّت ردّ ما سواها، والآيات والروايات التي تناولت موضوع تشريع الصلاة وأحكامها أخذت حيّزا واسعاً من النصوص لذا أرتأت (الحكمة) أن تقدّم هذه المائدة المتواضعة في تبيان مفردة: (كِتَابًا مَوْقُوتًا) في الآية (103) من (سورة النساء).
قال تعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا).
(النساء/103)
أولاً: الكتاب لغة:
اعلم أن الكتاب لغةً معناه الضمّ والجمع يقال: كَتَبتَ كتبًا وكِتَابَةً وكِتَاباً، ومنه قولهم: تكتّبتْ بنو فلان إذا اجتمعوا، وكَتَبَ إذا خطَّ بالقلم لما فيه من اجتماع الكلمات والحروف.
قال أبو حيان: ولا يصحّ أن يكون مشتقّاً من الكُتب لأنّ المصدر لا يشتق من المصدر. وأجيب بأن المزيد يشتق من المجرّد. واصطلاحاً اسم لجملةٍ مختصّة من العلم ويعبّر عنها بالباب وبالفصل أيضا. فإن جمع بين الثلاثة قيل: الكتاب اسم لجملةٍ مختصّةٍ من العلم مشتملة على أبواب وفصول ومسائل غالبا.(1)
ثانياً: الكتاب في القرآن:
وردت كلمت (الكتاب) و(كتابا) و(كتب) في القرآن ما يربو على (260) مرة تقريباً ولكن بمعانٍ مختلفة، فتارةً وردت: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ)(البقرة/2) إشارة إلى القرآن الكريم نفسه، وتارةً أخرى وردت: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِااللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ )(آل عمران/199) إشارةً إلى إلى اليهود والنصارى، وتارةً وردت بلفظ: (إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) (النساء/24) يعني: كتب الله تحريم ما حرّم، وتحليل ما حلل عليكم، كتاباً، فلا تخالفوه وتمسكوا به.(2)، وتارةً أخرى بلفظة: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ)(البقرة/180) (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) أي: فُرض عليكم، وتارةً أخرى ما يرتبط بعلم المعاد والقيامة: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا) (الأسراء/13) وهو: ما كتبه الحفظة عليهم من أعمالهم (يلقاه) أي: يَرى ذلك الكتاب (منشورا) أي: مفتوحاً معروضاً عليه ليقرأه، ويعلم ما فيه.(3)
عموماً استخدامات القرآن لمفردة (كتب) أو (الكتاب) تختلف بحسب السياق، وقد أفرد العلاّمة الكبير السيد الطباطبائي (قدس) في تفسيره القيّم (الميزان في تفسير القرآن) باباً بعنوان: (كلام في معنى الكتاب في القرآن، انظر تفسير الميزان 7/254) فراجع.
عموماً استخدامات القرآن لمفردة (كتب) أو (الكتاب) تختلف بحسب السياق، وقد أفرد العلاّمة الكبير السيد الطباطبائي (قدس) في تفسيره القيّم (الميزان في تفسير القرآن) باباً بعنوان: (كلام في معنى الكتاب في القرآن، انظر تفسير الميزان 7/254) فراجع.
ثالثاً: في روايات أهل البيت(عليهم السلام)
1ـ عن داود بن فرقد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): قوله تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا). قال: (كتابا ثابتا، وليس إن عجّلت قليلاً أو أخّرت قليلاً بالذي يضرك ما لم تضيّع تلك الإضاعة، فإنَّ الله (عزّوجل) يقول لقوم: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا))(4).
2ـ عن زرارة، عن أبي جعفر(عليه السلام) في قول الله (عزّوجل): ((إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا)، أي: (موجوبا))(5).
3ـ عن داود بن فرقد قال : (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): قوله تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا). قال : (كتابا ثابتًا)).(6)
4ـ وعن زرارة عن أبي جعفر قال: ((إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا).
قال: (لو أنّها في وقتٍ لا تُقبل إلا فيه كانت مصيبة، ولكن متى أديتها فقد أديتها)).(7)
5ـ عن محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: (إن الله تعالى قال: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا)، إنما عنَى وجوبها على المؤمنين لم يعن غيره، إنه لو كان كما يقولون ما صلّى رسول الله (صلى الله عليه وآله) هكذا وكان أعلم وأخبر، ولو كان خيراً لأمر به رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولقد فات الناس مع أمير المؤمنين (عليه السلام) في صفين صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، فأمرهم علي أمير المؤمنين (عليه السلام) فكبّروا وهللوا وسبحوا رجالاً ورُكبانا، يقول الله: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا)، فأمرهم علي(عليه السلام) فصنعوا ذلك).(8)
هذه بعض الروايات الواردة عن بيت العصمة(عليهم السلام) في أنّ المراد من قوله تعالى:(كِتَابًا مَوْقُوتًا)، يعني: واجوباً ومفروضاً وثابتا، وهناك روايات أخرى وردت عنهم في هذا المعنى، ولكننا نكتفي بالقدر المذكور.
رابعاً: في كلام بعض أعلامنا (ره):
1ـ المحقق الأردبيلي (قدّس): كتاب الصّلاة وهو يتنوّع أنواعاً الأول في البحث عنها بقول مطلق وفيه آيات:
الأولى: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا). مفروضةٌ أو موقتةٌ فلا تضيّعوها ولا تخلّوا بشرائطها وأوقاتها...
الثانية: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ) (البقرة/238). كأنّ الأمر بمحافظة الصلوات بالأداء لوقتها، والمداومة عليها، بعد بيان أحكام الأزواج والأولاد لئلاّ يلهيهم الاشتغال بهم عنها.(9)
2ـ المحقق البحراني(قدس): عن داود بن فرقد قال: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) قوله تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا). قال: (كتاباً ثابتا، وليس إن عجّلت قليلاً أو أخّرت قليلاً بالذي يضرك ما لم تضيّع تلك الإضاعة فإنّ الله (عزّوجل) يقوم لقوم: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)(سورة مريم/60)).
2ـ المحقق البحراني(قدس): عن داود بن فرقد قال: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) قوله تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا). قال: (كتاباً ثابتا، وليس إن عجّلت قليلاً أو أخّرت قليلاً بالذي يضرك ما لم تضيّع تلك الإضاعة فإنّ الله (عزّوجل) يقوم لقوم: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)(سورة مريم/60)).
قال بعض المحدّثين: أُريدَ التعجيل والتأخير اللذَيْن يكونان في طول أوقات الفضيلة والاختيار لا اللذَين يكونان خارج الوقت وأريدَ بالإضاعة التأخير عن وقت الفضيلة بلا عذر. انتهى. وهو جيد.
ومنها - ما في كتاب (الفقه الرضوي) قال: (اعلم أن لكل صلاة وقتين أول وآخر فأول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله)، ويُروى: (أن لكلّ صلاةٍ ثلاثة أوقات أول ووسط وآخر، فأول الوقت رضوان الله ووسطه عفو الله وآخره غفران الله وأول الوقت أفضله، وليس لأحد أن يتخذ آخر الوقت وقتا إنما جعل آخر الوقت للمريض والمعتل والمسافر).(10)
3ـ العلامة الطباطبائي(قدس): قوله تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا)، الكتابة كناية عن الفرض والإيجاب كقوله تعالى: ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).(البقرة/183) والموقوت من وقت كذا أي جعلت له وقتاً فظاهر اللفظ إنَّ الصلاة فريضة موقتة منجّمة تؤدى في أوقاتها ونجومها.
والظاهر أن الوقت في الصلاة كناية عن الثبات وعدم التغير بإطلاق الملزوم على لازمه فالمراد بكونها كتابا موقوتا أنها مفروضةٌ ثابتة غير متغيرة أصلا فالصلاة لا تسقط بحال، وذلك أن إبقاء لفظ الموقوت على بادي ظهوره لا يلائم ما سبقه من المضمون إذ لا حاجة تمس إلى التعرض لكون الصلاة عبادة ذات أوقات معينة مع أن قوله: (إِنَّ الصَّلَاةَ) في مقام التعليل لقوله: (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ)(النساء/103) فالظاهر أن المراد بكونها موقوتة كونها ثابتة لا تسقط بحال، ولا تتغير ولا تتبدل إلى شئ آخر كالصوم إلى الفدية مثلا.(11)
ـــــــــــــــــــــ
1ـ الاقناع في حل ألفاظ أبي شجاع للشربيني 1/15.
2ـ مجمع البيان 3/60.
3ـ مجمع البيان6/ 230.
4ـ وسائل الشيعة 4/29.
5ـ وسائل الشيعة4/7.
6ـ وسائل الشيعة4/8.
7ـ مستدرك الوسائل3/107.
8ـ وسائل الشيعة8/448.
9ـ زبدة البيان/49.
10ـ الحداق الناظرة للبحراني/90،91.
11ـ تفسير الميزان5/63.